ابحث في الفهارس

إسهامًا من المركز في تسهيل عملية البحث وإرشاد الباحثين للمخطوطات ونسخها؛ فقد أتاح المركز قاعدة بياناته للباحثين، لإيمانه أن أولى عمليات التحقيق الجادة تبدأ بمعرفة نسخ الكتاب.

لقاء مع الأستاذ الدكتور فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات العربية بالقاهرة

حوار مع الدكتور فيصل الحفيان

«حوارات تراثية»

حيث نناقش موضوعات وقضايا تتعلّق بالتراث العربي والإسلامي، ومعنا في هذا اللقاء عَلَم من أعلام هذا الميدان الدكتور فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات العربية.

وقد تم الحوار على جزأين:

الجزء الأول: وقد تناول المحور الأول:(التراث مفهومه وأهميّته) وتم يوم الأربعاءالموافق 19 من ذي الحجة 1439هـ. ، الموافق: 1 من أغسطس 2018م.

الجزء الثاني: وقد تناول محورين: (العناية بالتراث)، و (دور معهد المخطوطات)، وقد تم مساء يوم الجمعة الموافق: 9من ذي القعدة 1440هـ الموافق 12 من يوليو 2019م.

وقد تم الحوار بمجموعة «مخطوطات السنة» على «الواتساب»، وقد أعد الحوار وأجراه، شحات رجب البقوشي([1])، وساهم في تفريغه، الدكتورة كلثم عمر الماجد المهيري، والشيخ محمد باسم، جزاهما الله خيرًا، وقام بالمراجعة الشيخ عبد الله محمد الرهاوي نفع الله به.

نَصُّ الحوار

وفي البداية نشكر له كرمه بقبول طلبنا منه، وهذا عهدنا به -حفظه الله تعالى- فمرحبًا بفضيلة الدكتور فيصل الحفيان.

د. فيصل: بسم الله الرحمن الرحيم، أشكر المجموعة على هذا اللقاء وأتمنى أن تجدوا فيما أقول بعض الفائدة، وأنوه هنا باللقاء الذي كان قد أجري من قبل مع أخي إياد الطباع([2])، تفضلوا بالأسئلة، أهلاً وسهلاً.    

مرحبًا بكم. سيكون الحوار من ثلاثة محاور إن شاء الله.

المحور الأول:

التراث مفهومه وأهميّته:

  1. «المخطوط العربي كائن تاريخي» سمعنا هذا العنوان منكم كثيرًا، فماذا يعني؟

جواب د. فيصل: هذا المصطلح «كائن تاريخي» أردت أن أشير إلى أن هذا الكائن مرّ بمراحل عديدة، وانعطافات مختلفة، وتطورات متباينة.

هو كائن بمعنى: أنه كائن كالإنسان، له حياة كاملة، وهو جدير بأن نتتبع هذه الحياة في مراحلها المختلفة، وأن نجعل منها موضوعًا للدرس نفيد منه ونوظفه ونستثمره.

وتاريخي بمعنى: أنه شيء من الماضي لكنه حي، وهو ما أفاده لفظ الكينونة هذه التي اخترتها للتعبير عن المخطوط الذي هو حقيقة التراث العالي الذي يمثل عقل الأمة وفكرها وحضارتها وإسهامها في الحضارة الإنسانية.

┈••✾•✿•✾••┈

  1. وسئل: ألا ترى بأن «مفهوم التراث» مفهوم فضفاض، قد يدخل فيه الغثّ والسّمين، وما هو إسلامي، وما هو غير إسلامي، لو قُيّد المحور بالتراث الإسلامي لكان أفضل، والله أعلم؟

جواب د. فيصل: في الحقيقة كلمة «الإسلامي» المسكوت عنها موجودة بالفعل؛ لأن «مفهوم التراث» يعني: كل ما أنتجه العقل الإنساني داخل في مفهوم التراث، فهو قيد يمكن الاكتفاء عنه بدلالة السياق ودلالة الموضوع ومختلف الأمور الأخرى.

والتراث على الرغم من ذلك يبقى قيمة في ذاته؛ لأنه نتاج العقل، ولابد أن نُعنى به ونهتم، وأن ننظر إليه على أنه إرث يستحق منّا أن نجعله في محل اهتمامنا.

┈••✾•✿•✾••┈

  1. وسئل: ما حجم ما تمّ تحقيقه من التراث من جملة الذخائر التراثية الموجودة في المخازن ودور الكتب؟

جواب د. فيصل: الخريطة التراثية المخطوطة حتى الآن ليست معروفة التضاريس الخاصة بها؛ ولذلك – يعني- إذا كانت الخريطة المخطوطة غير معروفة، فما بالك بما طُبع.

ومع ذلك: هناك بعض التقديرات التي يشير إليها بعض الباحثين، والتي هي غير محكومة بالعلم أو بالتفصيلات الحقيقية التي تشير إلى مدى أو كم الكتب.

ثم في تقديري أن القضية الأهمّ من معرفة المطبوع من كتب التراث هي مسألة التعرّف أصلاً على المخطوطات نفسها.

هناك دراسة أعدَّها الدكتور «نصر عارف» حول «مصادر التراث السياسي»([3])، ذكر فيها أن ما نعرفه عن هذا النوع من التراث هو محدود للغاية، وكانت الدراسة اعتمدت على مخطوطات مجال السياسة التي في مصر وحدها، وكان مما ذكره أن ما عرفناه أو ما استخدمناه من التراث الإسلامي لا يتجاوز 7% من الحقل المعرفي، فما بالك بالحقول المعرفية الأخرى؟

لذا يمكن القول أنه ليس بالإمكان إطلاق حكم واحد في هذا الشأن؛ إنما الأمر متعلّق بالحقول المعرفية.

أنا أعتقد أن هناك حقولاً معرفية طُبع منها كتب كثيرة، بسبب الاهتمام بها، وأن هناك حقولاً معرفية أخرى لم تجد هذا الاهتمام.

فمثلًا أرى أن التراث العلمي ربما كان أقلّ في الاهتمام، ولذلك ما نُشر منه أقل.

أمَّا التراث الديني أو علوم الدين مثل: التفسير، والحديث، وعلوم القرآن، وعلوم اللغة، والأدب، ربما وجدت اهتمامًا أكبر، فرب ما طبع منها هو الأكثر.

وعليه؛ فإن إطلاق أحكام في هذا المجال هو من التعميم غير العلمي الذي لا يمكن الاعتماد عليه.

┈••✾•✿•✾••┈

4- وسئل: لِمَ لا يتم تعاون فيما بينكم -أقصد معهد المخطوطات- وبين سائر المكتبات، ويتم تبادل مخطوطات، وخاصة دار الكتب المصرية؛ لما نلاقي فيها من تعنّت كبير، وشروط قاسية ومبالغ كبيرة من أجل الحصول على مخطوط؟

جواب د. فيصل: التعاون قائم بين معهد المخطوطات العربية والعديد من الجهات، ونحن نحاول الاستمرار في مساعدة الباحثين ونطلب لهم بعض المخطوطات الموجودة في بعض الأماكن ونتيحها لهم، ولكن عندك حق في أن التعاون بين المؤسسات العاملة في حقل التراث ليس بالصورة التي ينبغي أن تكون عليها.

وعلى كل حال، فإن مشكلة المخطوطات أو الحصول على المخطوطات أصبحت أقل حدّة بكثيرة مما كانت عليه، أنت تعلم أن الكثير من المكتبات اليوم هي متاحة على الانترنت، لذلك هذا الجانب، جانب الإتاحة أصبح أقل حدّة، وأصبحت المخطوطات متاحة لمن يريد، أو يمكن الوصول إليها بصورة أفضل مما كانت عليه في القرن الماضي أو في النصف الأول من القرن الماضي.

┈••✾•✿•✾••┈

5- وسئل: لماذا لا تتاح مجلة معهد المخطوطات على الشبكة على موقع المعهد؟ لما نجد من صعوبة في تحصيلها؟

جواب د. فيصل: بخصوص مجلة معهد المخطوطات العربية وعدم إتاحتها؛ هذا سؤال محق؛ يُفترض أن تكون متاحة على الأقل للقراءة والاطلاع؛ وسوف نعمل على هذا.

ونحن نعلم أن هناك مراكز على الشبكة وضعت هذه المجلة وأتاحتها أو أتاحت بعضها، وسنحرص إن شاء الله على أن نكون المصدر الرئيس في هذا الموضوع، وأن تتاح أعداد المجلة لكل من يرغب بها من العدد الأول حتى الأعداد الأخيرة إن شاء الله.

┈••✾•✿•✾••┈

  1. أضرّت الكوارث بالتراث العربي والإسلامي من خلال الحروب، ومع ذلك وجدنا كثيرًا من المخطوطات محفوظة في متاحف ومكتبات دول الغرب، هل كانت هذه حروب ضدّ التراث أم حروب على التراث؟

الجواب: نعم الكوارث أضرّت، وهناك كوارث كثيرة تعرّض لها التراث العربي والإسلامي.

نحن نعرف التاريخ، فالتتار أو المغول عندما دمّروا الكثير في بغداد، وهناك أيضًا مناطق كثيرة تعرّض فيها التراث، حتى أبناء المناطق أنفسهم يعني أضروا بهذا التراث بطرائق حفظه، وبعدم الاهتمام الكافي.

وفي العصر الحديث هناك مناطق كثيرة في موريتانيا واليمن كنّا نحن -أصحاب هذا التراث- جزءًا من إضاعة هذا التراث وتخريبه أو عدم حفظه أو الاهتمام به.

أما مسألة انتقال هذا التراث أو تهجير هذا التراث من أماكنه أو بيئته الأصلية أو الأساسية، فهذه ظاهرة معروفة بدأت من عدّة قرون في الحقيقة، والطابع العام لها الاستيلاء على هذا التراث؛ لأنه يمثل فكر هذه المنطقة، ومن ثم الدخول في تلافيف هذا العقل ومعرفة كيفية التعامل معه والإفادة منه.

لذلك، هناك كتاب صدر مؤخرًا شاركت فيه ببحث حول المخطوطات المهجّرة.

هناك مقولة تتردد على ألسنة كثير من الباحثين بأن انتقال هذا التراث إلى الغرب كان فيه خيرٌ، أو كان خيرًا، وهذه في الحقيقة يعني مقولة ليست قاطعة، ولا يمكن الاعتماد عليها؛ فالنقل عندما تمّ، والتهجير عندما تمّ، ما كان هدفه الخير، وكونهم حافظوا عليه أو وضعوه في ظروف أكثر أمانًا هو خير، لكنه غير متعمّد وغير مقصود وغير مراد.

في الحقيقة هذه إشكالية كبيرة، إشكالية تهجير التراث.

اليوم أصبح أحسن حالاً في بلادنا العربية باستثناء المناطق التي توجد فيها الآن صراعات في سوريا والعراق وغيرها من البلدان.

على كلّ حال: التراث على مدى التاريخ كان عُرضة لمثل هذه الأمور، والواجب علينا نحن أصحاب هذا التراث أن نُسرع بالإفادة منه وأن نخدمه وأن نحافظ عليه وأن نفيد منه.

┈••✾•✿•✾••┈

7- وسئل: كم تمنينا اقتراح وعقد اجتماعات مع جميع البلدان، أقصد المكتبات جميعًا، لإنشاء قسم خاص لفهرسة المخطوطات الكترونيًا بجميع فنونها، وبعد سنوات سنجد خيرًا عظيمًا، وبهذا يستفيد الجميع.

جواب د. فيصل: مسألة فهرسة المخطوطات التي أشير إليها في السؤال هي مسألة مهمة؛ لأن هذه الفهرسة هي الخطوة الأولى؛ التعرّف على المخطوطات أو التعريف بها، ولكن هذه أيضًا في الوقت نفسه هي مسألة شديدة التعقيد والأهمية، وتحتاج إلى كوادر وإلى جهد وإلى مؤسسات تعمل بها؛ ولذلك كل مؤسسة أو أي مؤسسة تعمل في حقل التراث مشكلتها الأساسية هي في التعريف بمخطوطاتها.

ودائمًا هناك فهارس تصدر، لكن هذه الفهارس لا تمثل إلا جزءًا قليلاً جدًّا من الرصيد المحفوظ في المكتبة أو في المؤسسة؛ إذًا هناك الآن أدوات وتقنيات ووسائل وبرامج وتطبيقات كلها تساعد على عملية الفهرسة ولكنّ الأمور تحتاج إلى مزيد من التنسيق خاصة بين المؤسسات، ومزيد من التوفير المال وتوفير الكوادر لكي يتحقق أو يتم هذا العمل بالصورة التي تحقق الإسراع في عملية رسم التضاريس الخاصة بخريطة المخطوطات العربية التي وصلت إلينا.

┈••✾•✿•✾••┈

8- هل كان للمستشرقين فضلٌ على تراثنا، أم وجدوا فيه مائدة علمية استفادوا منه؟

جواب د. فيصل: «الاستشراق والتراث» نحن أمة الإنصاف، لا شك أن المستشرقين أو بعض المستشرقين كان لهم فضل، وفي الوقت نفسه نضع هذا الفضل في إطار المنظومة الحضارية؛ هم أصحاب الحضارة أو كان المشعل في يدهم منذ عصر النهضة (أقول: النهضة الأوربية التي استمدوها من حضارة الإسلام) والمشعل عندما يكون في اليد فإنه يضيء الطريق، ومن هذه الإضاءة كان التفاتهم إلى التراث، لكن في الوقت نفسه لا نستطيع إلا أن نقول إن هناك كثيرًا من الجهود التي بذلها المستشرقون كانت جهودًا موظفة لخدمة أغراض خاصة، وربما أغراض غير نزيهة، أو استعمارية أو غيرها،  دون أن ينفي ذلك أن بعضهم كان رائده العلم وطلب المعرفة بغض النظر عن الأغراض الخاصة.

إذًا؛ نحن يمكن أن نفيد مما قدمة المستشرقون للتراث من نصوص ومن دراسات على أن يكون محل نقد ومساءلة، وهذا شيء طبيعي، وحتى هذا الجهد الذي بُذل للتراث منا أو من غيرنا لابد أن يكون دائمًا محلّ درس ومراجعة ونقد واستثمار، هذه المعادلة: ما قدمه المستشرقون: بعضه خير، وبعضه منصف، وأكثره قد لا يكون كذلك، أو قد لا تكون دوافعه الحقيقية كذلك.

┈••✾•✿•✾••┈

9- استدراك بعض المشاركين على كلام الدكتور فيصل فقال: فُهمَ من كلامكم أن المستشرقين أصحاب فضل وسبق، ونحن تَبَعٌ لهم، هل قصدتم هذا؟

جواب د. فيصل: بعض المستشرقين لهم فضل؛ أخرجوا لنا نصوصًا كانت غائبة، وبعضهم أو أكثرهم ليسوا كذلك، وظفوا التراث ولووا عنقه أحيانًا لتحقيق أهداف خاصة، وبعضهم نشر التراث أو دَرَسه ليس بقصد إفادتنا، بل جاءت الإفادة نتيجة غير مقصودة، إنما كان الهدف أمرًا آخر، وعقلية المساءلة وإدراك أبعاد الأمر مهمة اليوم، ونحن نتعامل مع الآخر ومع تراثنا من جهة أخرى.

وأنا لم أقل إننا تبع لهم، لكن قلت: إنهم بدأوا بحكم أنهم التفتوا إلى التراث مبكرًا، فنحن نعرف أن أوائل الكتب العربية صدرت في فرنسا وفي إيطاليا ككتب الرازي، وحتى كتاب سيبويه والطبعات الأولى من القرآن الكريم، والكثير من الكتب ظهرت هناك، لكن هذا لا يعني أننا تبَعٌ لهم، نحن في أعمالنا وفي خدمتنا للتراث وللنصوص وخاصة في القرن العشرين تجاوزناهم، لكن هذا لا يعني أن ننفي أننا قد أفدنا منهم، نحن لسنا تبعًا، ولكننا أفدنا من الجهود التي بذلت، على  الأقل في مجال الالتفات لهذا التراث والاهتمام به.

فنحن كنا نعاني من قطيعة مع التراث، ونظن أن أمورًا كثيرة هي من نتاج العقل الغربي، ثم اكتشفنا أن هناك جهودًا كبيرة محترمة ومقدّرة من التراث، وأنهم أفادوا منها، وهم يبنون نظرياتهم تجاه التراث وتجاه غيره من القضايا الثقافية والعلمية والحضارية التي هي اليوم أصحبت معروفة.

┈••✾•✿•✾••┈

10- هذا السؤال قد يراه البعض هو بيت القصيد من كثرة ما يُقدم للتراث من نقد، فالبعض يرى أنه في القرن الحادي والعشرين، فالأولى بالتراث أن يرمى في البحر، والبعض يرى ضرورة تنقيته؛ ليستفاد منه، ورأي ثالث يقدس التراث، كيف يرى الدكتور فيصل كل فريق منهم؟ وهل يُنظر للتراث بثنائية القديم والجديد؟

جواب د. فيصل: أما الرمي في البحر فهذا ما لا يتأتى، لا تِجاه التراث ولا تجاه غيره، فهذا عمل غير عاقل وغير إنساني.

نحن لا نتكلم ولا نعتمد مثل هذه العبارات، فمن تصدر عنه مثل هذه العبارات  هو خارج دائرة التفكير الثقافي، وخارج دائرة التفكير الإنساني المنضبط.

نحن نقول: إن التراث جزء من الإنتاج العقلي لأمة من الأمم، والأمة العربية والإسلامية أنتجت تراثًا عريضًا وكبيرًا وواسعًا وثريًا، ليس باعترافنا وإنما باعتراف الآخر وغيرنا من الأمم الأخرى. 

موقفنا من التراث هو أن هذا التراث شيء بشري قابل للنقد وقابل للمسائلة، نستثني منه بالضرورة القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة؛ لأن هذين في رؤيتنا ليسا جزءًا من التراث؛ لأن التراث كما قلت الأساس فيه أنه قابل للنقد وقابل للمساءلة، أما القرآن والسنة فهما غير قابلين للنقد والمساءلة، يقبلان التفسير نعم.

فهناك فرق بين الوحيين وبين التراث، إذا ما وضعنا هذا الخط الفاصل والمحدد والواضح  بين هذين النوعين مما وصل إلينا من التاريخ، فإننا نستطيع أن نقول: إن هذا التراث فيه ما يفيد، أو أكثره يفيد، وفيه أيضًا ما قد يمكن الاستغناء عنه وجعله ليس في سلم الأولوية من حيث الدرس والنشر، لكن على كل حال التراث هو جزء من تجربة العقل الإنساني عبر التاريخ.

وإذن يمكن الإفادة منه في انتصاراته وفي انكساراته، أو في نجاحاته وفي إخفاقاته، كما ندرس اليوم التاريخ  بكل ما فيه، ندرسه لنفيد منه؛ إنها تجربة العقل الإنساني عبر التاريخ.

نحن إذن لا نرمي التراث في البحر، ولا نقدسه؛ لأنه ليس وحيًا، لكننا في الوقت نفسه نرى أنه تجربة إنسانية ونتاج صفوة من عقول الناس، بالتالي يمكن أن، أو لابد أن نفيد منه ونرجع إليه لأن هذا التراث جزء من الذاكرة الحضارية التي لا يمكن أن نستغني عنها وإلا فنكون قد قمنا بمسح جزء من هذه الذاكرة، ويمكن التشبيه في هذا السياق بذاكرة الإنسان، هل يستطيع الإنسان أن يمحو أو يستغني عن ذاكرته، إنه يرجع إلى مرحلة الطفولة، لأنه يصبح بلا تجربة وبلا رصيد وبلا معرفة، والأمة كالفرد في المقايسة بينهما في هذا الاتجاه.

نحن مع نقد التراث، لكننا لسنا مع نقض التراث، ذلك الذي عبر عنه السؤال بالبحر، واليوم كثير من النخبة والفلاسفة الذين يتحدثون عن التراث ويقولون: إنه لم يعد صالحًا، وأنه تاريخي، كل هذا الكلام لا يتفق مع العلم، ولا يتفق مع التفكير العلمي الذي يدّعون أنهم يرفعون رايته أو ينادون به.

ونحن نقول دائمًا: إن التراث جزء من الذاكرة التي ينبغي أن نعتزّ بها، والأمة التي ليس لها تراث اليوم تسعى لتقول: إن لديها تراث.

ولذلك، فمسألة احترام التراث وتقدير التراث ومساءلته والتفاعل معه يجعله يثمر شيئًا جديدًا ليقول: إنه ابن هذا العصر ونتاج هذا العقل العربي والمسلم الذي يعيش اليوم؛ فنحن لا نعيش باستمرار في داخل التراث، إنما نجعل التراث جزءًا يعيش داخلنا حتى نستطيع أن نعود ونمسك بزمام الحياة وبالمشاركة في العصر الذي نعيش فيه.

┈••✾•✿•✾••┈

11- وسئل: ما دورنا لينال التراث حقه من الاهتمام عند أهله الذي يلهثون وراء الغرب وينخلعون من جذورهم وهل تقوم الجهات الرسمية بما ينبغي عليها؟      

جواب د. فيصل: لا بد من الوعي بقيمة التراث، فالوعي بقيمة التراث في حد ذاتها هي أول خطوة على الطريق نحو الاهتمام بالتراث، فعندما نؤمن بالتراث –والإيمان كلمة مهمة- نستطيع أن نعطي التراث، وإذا فقدنا الاهتمام بالتراث أو لم نؤمن به لن يكون هناك عطاء.

ومن هنا يأتي دور بناء القاعدة الأساسية من الأجيال الجديدة التي تدرك أن هناك أمة لها تراث، وأن هذا التراث يستحق الاهتمام، وأن كثيرًا من هذا التراث أو جزءًا مهمًا منه لم يُقرأ حتى اليوم القراءة التي يستحقها.

والمشكلة أن هناك طغيانًا للكثير من المقولات والمفهومات التي يرددها الذين هم على السطح أو الذين هم في الواجهة في حياتنا الثقافية، من أولئك الذين انخلعوا من جذورهم على حد تعبير السؤال، لابد أن يكون هناك في المقابل أناس يضربون بجذورهم في الخصوص.

هل تقوم الجهات الرسمية بما ينبغي عليها تجاه هذا التراث، أرى أن الإجابة قد تكون أقرب إلى: «لا»، منها إلى: «نعم»، وأن هناك قصورًا وتقصيرًا من هذه الجهات في خدمة التراث على أصعدة مختلفة؛ على صعيد الكم، أي كمّ الجهد الذي يُبذل في خدمة التراث، وعلى صعيد الانتقاء من التراث.

نحن ضد الانتقاء من التراث أو تصنيفه، فنأخذ منه ما يتوافق مع رؤانا أو الأيدولوجية التي تحكمنا وننفي أو نُبعد ما لا يتّفق؛ فالتراث كله لابد أن يكون تحت العين، والنص التراثي قيمته في ذاته وليست قيمته في موضوعه، (أن الموضوع وحده ليس هو الحاكم في الاختيار أو الدرس)، بل لابد أن تكون النظرة هنا شاملة، أو نظرة فيها شمولية وتكامل إلى التراث حتى يسير أو تسير الموضوعات جنبًا إلى جنب، فلا نتجه إلى علوم الدين فقط ونُهمل علوم اللغة، أو نتجه إلى علوم الدين واللغة ونهمل علوم التاريخ، لا بد من الاهتمام بكل النصوص التراثية، وأن تكون تحت عين هذه الجهات، وأن تتيح المعرفة عندما تكون متاحة، وعندما تكون فيها الرؤى المتعددة المختلفة أمام الأعين، فلا شك أن التكوين الذي سيتم للعقل العربي والإسلامي سيكون تكوينًا يساعد على استئناف الحضارة العربية والإسلامية، وسنعود مرةً أخرى كما كنّا في السابق.

┈••✾•✿•✾••┈

الجزء الثاني من حوار الدكتور فيصل الحفيان

السادة أعضاء المجموعة المباركة، الآن وبعد عام تقريبًا نستأنف حوارنا مع د فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات فمرحبا به، وشاكرين له تفضله بهذا الوقت، وكانت الأسئلة فيما مضى في المحور الأول (التراث مفهومه وأهميته) واليوم مع المحور الثاني والثالث من محاور اللقاء.

ثانيًا المحور الثاني:

العناية بالتراث:

12- لا يخفى على أحد الاهتمام الكبير الذي يوجه من قبل الباحثين الآن تجاه التراث، فهل يرى الدكتور فيصل الحفيان أن التراث قد أخذ حقه من العناية من حيث الفهرسة والتحقيق والرقمنة والترميم أم مازال هناك حاجة لمزيد من العناية به؟

جواب د. فيصل: أعتقد أن التراث حظي بالكثير من الاهتمام في السنوات الأخيرة؛ لكن هذا الاهتمام مازال بحاجة إلى تعميق، وإلى زيادة وتأكيد؛ لأن التراث رصيدٌ كبيرٌ ويحتاج إلى جهد، ليس لأفراد فحسب؛ وإنما لمؤسسات، لابد من تكاتف الجهود وتعاونها وتعاضدها حتى نستطيع القيام بخدمة هذا التراث. طبعًا هناك مجالات كثيرة الرئيس فيها هو: الفهرسة، والتحقيق، والرقمنة، والترميم، هناك جهود بذلت في هذه المجالات الأربع:

هناك تركيز ينبغي أن يكون على مسألة الترميم بما تعنيه من إنقاذ المخطوطات خاصة في البلاد ذات الأوضاع الخاصة، خاصة التي تشهد ثورات وصراعات أعني سوريا، والعراق، واليمن، وليبيا، وفلسطين، بالطبع هذه البلاد محتاجه إلى ترميم مخطوطاتها والحفاظ عليها بصور مختلفة، ويأتي في هذا الإطار العناية والاهتمام بتأهيل الكوادر الموجودة في هذه البلاد، ولفت أنظار الجهات المعنية أو السلطات الموجودة؛ حتى يكون التراث واحدًا من الاهتمامات التي ينبغي أن توجه هذه السلطات إليها اهتمامها.

الرقمنة أيضًا ما تزال بحاجة إلى الكثير.

أمَّا التحقيق فهذا المجال فيه جهد كبير، ولكن ليس بالمستوى المنهجي أو العلمي الذي يمكن أن يجعلنا مرتاحين كل الارتياح لما يحصل، خاصة أن هناك دُخلاء كثيرين على صنعة التحقيق، حتى تحول التحقيق إلى ما يمكن أن نسمِّيه نوع من التصحيح غير الدقيق للنصوص، وإنما مفهوم التحقيق المفهوم الكلي الذي ينبغي أن يكون عليه بمعنى خدمة النص خدمة علمية متكاملة. أظن أن هذا غير موجود بالصورة المطلوبة والتي ينبغي أن تكون.

الفهرسة: هناك جهود كبيرة قد حصلت وخاصة من خلال قواعد البيانات التي أنشأت في مراكز التراث خاصة في السعودية والإمارات وفي معهد المخطوطات العربية؛ ولكن ما زالت هناك أيضًا جهود كثيرة ينبغي أن تحظى بالاهتمام في مجال الفهرسة؛ لأنها كما هو معلوم هي –أي الفهرسة- البنية التحتية للتعرف على التراث، وبدون هذه الفهرسة يظلُّ التراث شيئًا مجهولًا؛ ومعلوم أن لدينا ثلاثة مستويات من الفهرسة:

مستوى القوائم أو البيانات الأساسية.

ومستوى الفهرسة الوصفية.

ومستوى الفهرسة التحليلية.

واعتقد أنَّ في هذه المرحلة أن حجم التراث من ناحية والكم الذي لدينا من التراث يتطلب ان نعتمد أكثر مبدأ الفهرسة البيانات الأساسية بشرط أن تكون هذه البيانات منضبطة وصحيحة وهذا ما يتطلب طبعًا جهدًا لأن اي خطأ من هذه البيانات قد يؤدي إلى ضياع هذه النصوص وعدم التعرف عليها وربما خفائها إلى درجة أننا قد لا نلتفت إليها غذا حدث خطأ في العنوان أو النسبة إنما الفهرسة التحليلية والوصفية مهمة بالطبع ولكن قد تكون في مرحلة لاحقة نتعرف اولاً على الخطوط العريضة والتضاريس العامة لهذا التراث ثم ننتقل في المرحلة التالية إلى الوصف ثم إلى الفهرسة التحليلية ونحن الأن أمامنوع من الفهرسة جديد يربط عن طريق قواعد بيانات والجهود الالكترونية في لفهرسة بين علاقات النصوص وهذا حقيقة شديد الأهمية، لأنه تربط المعرفة التراثية ببعضها وتحقق لها الكثير من التكامل.

┈••✾•✿•✾••┈

13- وسئل: ما الرقمنة؟

جواب د. فيصل: نعني بالرقمنة تحويل المخطوطات من الصورة المطبوعة - وهو الوعاء – كتاب مرئي بالعين نمسك به أوالميكروفيلم والصورة الضوئية إلى الصورة الرقمية، وهذه هي الصورة الأكثر عصرية اليوم ولها مميزات حيث توفر خدمات عديدة للباحث، وهذا لا يعني الاستغناء بالطبع عن مخطوط الأصلي في صورته التاريخية، أو حتى عن الوعاء الميكروفيلمي لكل منها وظيفتها وفوائدها التي تقتضي الحفاظ عليها؛ ولذلك الرقمنة هذه وسيلة مهمة ومطلوبة اليوم حتى يكون التراث في صورته المخطوطة أكثر ذيوعًا وانتشارًا، ووصولًا لأيدي الباحثين.

┈••✾•✿•✾••┈

14- وسأل: جهاد المرشدي: مسألة الترميم، هل هي علم؟ وهل نحن الباحثون بحاجة لتعلمه؟ وهل له مواد كميائية أثناء الترميم؟

جواب د. فيصل: نعم الترميم علم طبعًا وله أدواته، وهو بالتأكيد ليس مطلوبًا من الباحثين، يعني الباحثين في النصوص، لا يتطلب منهم المعرفة بالترميم؛ لكن لا بأس من بعض الثقافة التي يتحلى بها محقق النص؛ لأنه قد يتعامل مع نصوص في أوعيتها التاريخية (المخطوطات) وهي قد تعرضت للترميم فإنه قد يعينه ذلك على إدراك بعض الكلمات.

يعني الترميم هو أبعد ما يكون عن اختصاص المعنيين بشأن النصوص ذاتها أو فهرستها، وهو مرتبط بالمؤسسات أكثر من ارتباطه بالأفراد، ووظيفته مهمة للغاية؛ لأنه هو الذي يحفظ لنا هذا التراث ويحاول أن يبقيه حيًّا.

┈••✾•✿•✾••┈

15- هل علم التحقيق نضج؛ بمعنى: هل حُررت كل المصطلحات المستخدمة فيه؟ أم مازالت متداخلة تداخلاً يشوش أحيانًا على العاملين في التراث؟

فمثلاً: الدكتور فيصل الحفيان له كتاب صدر مؤخرًا «قراءة النص» قرر فيه أن القراءة قراءات تبدأ من القراءة الاستكشافية للنص، والتحقيق مستوى متقدم من قراءة النص. فكيف تدرج هذا المفهوم من معناه اللغوي إلى معناه الاصطلاحي الذي قررتموه؟

جواب د. فيصل: نحن نعاني من فوضى في مصطلحات التحقيق، حتى عند المتخصصين والذين يكتبون في نظريات التحقيق، أنا أعتقد أن العلم إنما يُقاس نضجه بنضج مصطلحاته وتحديد مفاهيمها؛ حتى تكون واضحة ومصيبة لغرضها بصورة واضحة وقوية، في مجال التحقيق مازال هناك مصطلحات كثيرة غير واضحة المعالم، وهذا يتطلب منا وضع حدود فاصلة بين هذه المصطلحات، وهنا يأتي دور التفكير النظري للتحقيق أنا قلت في كتابي «التحقيق والقراءة» أن التحقيق لم ينضج بعد بوصفه علمًا، وأن الأمر يتطلب مزيدًا من النظر؛ لأن المصطلحات التي تستخدم  مصطلحات متداخلة مضطربة، وأحيانًا يضرب بعضها بعضًا، فالأمر إذن يحتاج إلى نظر.

ولذلك قرَّرت أيضًا أن ما كتب في التحقيق حتى الآن كلامًا في الإجراء وليس الكلام في التأصيل النظري، وهناك قضايا نظرية كثيرة ما زالت عالقة تحتاج إلى بحث، ربما أضرب مثالًا على ذلك وهو أن واحدًا من كبار الأساتذة الذين نحترمهم  ونقدرهم، وله كتاب قال إن التحقيق: غايته ضبط النص من جهة اللفظ والمعنى. وهو يعرِّف التحقيق ورأى في تعريفه هذا الذي ركَّزنا فيه على «ضبط النص من حيث اللفظ والمعنى» رأى أنها إضافة مهمة. والحقيقة أنها إضافة غير صحيحة، لأن التحقيق مهمته ضبط الألفاظ -ضبط هيئات الألفاظ صورة الألفاظ- وليس المعاني، المعاني قد تكون معينة على ضبط الألفاظ؛ لكن الألفاظ هي المطلوبة من المحقق، أما المعاني فتلك مسألة لا يمكن في الأصل ضبطها؛ لأن المعاني كما يقولون تكون في عقل الكاتب، ومن هنا تأتي الاختلافات في فهم النصوص.

┈••✾•✿•✾••┈

16-  عقدتم بالمعهد دورات متخصصة عام 2017 لتحقيق ( النص الحديثي) و (علوم القرآن) وعقدتم المنتدى التراثي الأول لعام 2018 في ( النص العلمي) فهل مفهوم التحقيق ومراحلة وأدواته تختلف باختلاف نوع النص؟ وما النقاط المشتركة في تحقيق جميع الأنواع؟

جواب د. فيصل: لا شك أن هناك منهجًا واحدًا، وبِنية أساسية لتحقيق النصوص جميعًا، باعتبار أن النص في مجملة هو نص لغوي، أنت تتعامل مع اللغة، لكن الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه النص له خصوصيته التي تتطلب من المحقق أن يكون مُلِمًّا به، وهذا شيء معروف ومُسَلَّم به، بمعنى أن من يحقق نصًّا في الفقه لابد أن يكون قريبًا من هذا الموضوع، وكذلك من يريد أن يحقق في اللغة لابد أن يكون قريبًا يعرف لغة هذا العلم ومصطلحاته وتقاليده المعرفية، لذلك دورات التحقيق الموضوعي التي  ابتكرناها في معهد المخطوطات العربية الهدف منها تدريب المتدربين أو الراغبين على التعامل مع نصوص بعينها، أي إننا نقسم هذه الدورات إلى قسمين رئيسين:

القسم الأول: الموضوع وكل ما يتصل به.

والقسم الثاني: الصنعة.

ثم نحقق الربط بينهما؛ لأن بعض النصوص -كما هو معلوم-  لها خصوصيتها من رموزها، ومن مصطلحاتها، وفي طرائقها في التأليف ربما في مناهجها، كل هذا يفرض أن نتعامل معها ونقربها  عن طريق التدريب، وربطها بالمنهج العام الذي يتعامل مع النصوص باعتبارها نصوص لغوية، وبهذه الطريقة يمكن أن نحقق غرضين  في غرض واحد:

أولًا: نتعرف على الصنعة.

وثانيًا: نتعرف على الموضوع،

ونضع في حسابنا أن هذا الموضوع فيه تلك الخصوصيات التي ينبغي أن تكون حاضرة، بمعنى أن هناك مثلًا نصوصًا تحتاج ضبطًا مبالغًا فيه، وهناك نصوص قد لا تحتاج هذا الضبط المبالغ به، هناك نصوص لا بد أن نركز فيها على لغاتها ومصطلحاتها؛ لأن لها دلالات خاصة، فإن لم ننتبه يمكن أن نذهب إلى دلالة المصطلح في حقل معرفي آخر، أو دلالة اللغة المختلفة، ويظهر ذلك بوضوح عند المتصوفة، فلهم مصطلحات خاصة  فالحب عندهم مثلًا له معنًى مختلف، وكل علم فيه مصطلحاته الخاصة التي لا بد أن تراعى من قبل المحقق، كتب التفسير أيضًا، وعلوم القرآن عمومًا، لا بد أن يلتفت المحقق فيها ويحذر من أن بعض الآيات قد تكون مسوقة بقراءة معينة، وهو قد يكون خالي الذهن عن هذه القراءة فينصرف إلى القراءة الشائعة، إذن دورات التحقيق الموضوعي هي الدورات التي تحقق الربط بين الموضوع والصنعة.

وبالمناسبة نحن في هذه الايام في المعهد نعد لدورة في التحقيق الموضوعي تتعلق بتحقيق النصوص العلمية الـ (Science) الطب وما يتصل به، والرياضيات والهندسة وما يتعلق بهما، ومن المتوقع أن تعقد هذه الدورة في أواخر أغسطس وأوائل سبتمبر([4])، وهي دورة مهمة؛ لأن التراث العلمي هو جزء مهم جدًّا في التراث الذي لا يحظى بالاهتمام الكافي، والذين يعملون فيه إنما يعملون من خارجه بمعنى أنهم غير متخصصين.

نحن في مجال التراث العلمي إمَّا أن نقع على محقق لكن ثقافته شرعية أو لغوية أو أدبية أو تاريخية، أو نقع على محقق لا علاقة له بالتعامل مع النصوص وثقافته معاصرة، يعرف طب اليوم ولا يعرف الطب قديمًا، يعرف الهندسة والرياضيات اليوم ولا يعرف الهندسة والرياضيات القديمة.

هذا الفصام -إذا صح التعبير- ينبغي أن نُعنى به، أي نكوِّن أناسًا يستطيعون التعامل مع النصوص العلمية باعتبارها نصوصًا لغوية، وفي الوقت نفسه نستقطب من يعرفون العلم الحديث؛ وذلك لنحقق الربط بين القديم والحديث، هذا الربط هو الذي يضع المعرفة العلمية التراثية في سياقها اليوم، ويجعلنا أكثر قدرة على الإفادة منها وتوظيفها التوظيف الصحيح.

┈••✾•✿•✾••┈

المحور الثالث: معهد المخطوطات العربية.

ينظر كثير من الباحثين إلى معهد المخطوطات العربية أنه بيت العائلة لهم، وأنت الآن على رأس إدارة المعهد –نسأل الله لكم التوفيق- لنا بعض الاستفسارات حول بيتنا.

17- المعهد أنشأته جامعة الدول لهدف رعاية التراث، فهل قام المعهد بدوره تجاه التراث عبر تاريخه؟ أم عرقلته الإجراءات الروتينية والقنوات الدبلوماسية عن القيام بدوره؟

جواب د. فيصل: هذا سؤال مهم؛ لأنه يتَّصل بمعهد المخطوطات العربية، ولكن أنا دائمًا أحب النقد الذاتي، وأرى أنَّ المعهد قام بدور مهم في خدمة التراث، لكن ليس هو الدور الذي نطمح إليه، بمعنى أن هناك قصورًا أو تقصيرًا قد لا يكون المعهد بذاته أو ذاته هو المسؤول عنه بصورة مباشرة.

مرَّ المعهد بمراحل مد وجزر، أحيانًا السياسة كان لها دور، وأحيانًا الإمكانيات المادية والاقتصاد، لكن بشكل عام ظلَّ المعهد يؤدي مهمته ودوره وواجبه، وكان بكل مرحلة من المراحل التي مر بها خيط معين جرى التركيز عليه، ولعل فيما أعتقد أن هناك مرحلة ذهبية مر بها المعهد هي التي كانت في بداية إنشاءه أيام «يوسف العش» $، و«صالح الدين المنجد» $ وأن هناك مرحلة جزر كانت ربما بعد القطيعة بين مصر والبلاد العربية عقب «كامب ديفيد» في مصر؛ لأن المعهد كان في مصر، وكان في الكويت.

عندما كان في مصر لا شك أن هناك كان مرحلة جزر؛ لأنه ما عاد أصلًا تابعًا للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وكان هناك اهتمام في معهد المخطوطات بالكويت، عمل أشياء جيدة في الكويت، لكن عمومًا تظل مسألة السياسة ومسألة الاقتصاد لها دور في عرقلة عمل المعهد.

الآن المعهد في السنوات الأخيرة انفتح -كما يعرف المتخصصون- على كثير من الأمور ما كانت واردة في بداياته ولا في مراحل عمره الماضية، منها: مسألة التدريب، ومنها: مسألة الانفتاح على التكنولوجيا، ومنها: مسألة المؤتمرات والندوات، كل هذه الأمور لم كانت موجودة، كان العمل قديمًا هو يركز على العمل البحثي المباشر، وعلى تصوير المخطوطات، حتى تصوير المخطوطات نحن في العقد الأخير، في العقد الأخير قمنا بعملية جمع لمخطوطات كثيرة عن طريق التبادل، وعن طريق البعثات التي قلَّت عما كانت عليها زمان؛ وذلك بسبب أن التكنولوجيا أتاحت كثيرًا من المخطوطات التي كانت لا بد من الذهاب إليها، أصبحت تصل هي إلينا، وتأتي إلينا.

وعمومًا لا شك أن المعهد أدى بعض وظيفته، وبعض مهامه، وبذل الجهد؛ لكن التراث حجمه وقدره أكبر من المعهد، وأكبر من المؤسسات التي تعمل في هذا الحقل.

┈••✾•✿•✾••┈

18- مبادرة «تراثنا» هي نافذة مفتوحة للشباب المهتم بالتراث واستجابة جيدة لطموحهم، ولكن هل هي مرحلة ثالثة للكتاب العربي بعد (الكتاب المخطوط، الكتاب الورقي المحقق، الكتاب الإلكتروني المحقق)؟ وما مدى استجابة الباحثين لهذه المبادرة؟

جواب د. فيصل: بادرة تراثنا هي بادرة مهمة الحقيقة، أول مزاياه أنها مكنتنا أن ننفتح أكثر على الشباب، وأن ننشر لهم للمتميزين منهم، ساعدتنا بالضرورة على التغلب على مشكلة الإمكانات المادية التي يتطلبها النشر الورقي، يعني البادرة كانت نافذة واسعة استطعنا من خلالها أن نشعر بالكثير من الرضا عن النشر التراثي، نحن نُعِدُّ أنفسنا في المعهد شركاء لهؤلاء الشباب في نشر انتاجهم، خاصة فيما يتصل بالتراث من زوايا مختلفة: النصوص المحققة، المقالات الثقافية التراثية، والرسائل والأطروحات الجامعية، حتى الكتب السابقة النشر والتي نريد أن نعيد طباعتها لعدم توافرها في السوق نستدعيها، فبادرة تراثنا الحقيقة هي بادرة شديدة الأهمية، وقد نشرنا خلالها في عام واحد أكثر من أربعين كتابًا، وقد تنوعت هذه البادرة لتشمل كما ذكرنا الأطروحات، والكتب، والنصوص المحققة، والمقالات، وإعادة الطبع للكتب القديمة.

┈••✾•✿•✾••┈

19- وصلنا للسؤال قبل الآخير: «المخطوطات المهجرة» أشرتم لها من قبل، ما دور المعهد تجاهها، وهل يمكن أن تعود لديارها الأصيلة ولو بصورة رقمية؟

جواب د. فيصل: المخطوطات المهجرة قضية كبيرة طبعًا، ونحن أثَرناها في يوم المخطوط العربي في الدورة الأخيرة العام 2019م العام الحالي، وعالجناها من زوايا عديدة: زوايا قانونية، وزوايا تاريخية، وعدة زوايا، وهي حقيقة قضية كبيرة «عودة المخطوطات»، «عودة المخطوطات»، «عودة المخطوطات» هذه المهجرة بأعيانها -أقصد بأوعيتها التاريخية- قد تكون عملية شديدة الصعوبة؛ لذلك نحن نطمح إلى إعادتها بصورة رقمية، والآن أصبح كثير من هذه المخطوطات على الشابكة والحمد لله.

والقضية في ذاتها قضية تاريخية، ونحن ننظر إليها من زوايا متعددة، الشاهد فيها أن هناك بعض الناس من أبناء التراث يرى أن الخير كان في تهجير هذا التراث. وهذا ليس صحيحًا على إطلاقه، هذه المخطوطات ينبغي أن تكون بين يدي أصحابها بأعيانها وأوعيتها التاريخية؛  لأنها جزء من عقل صاحبها الذي أنتجها، والمسوغات التي تقول إنها حفظت في الخارج، وكان يمكن أن تضيع فهذا ليس هو السبب الذي من أجله هجرت المخطوطات، فالغربيين لما أخذوا المخطوطات ما كان هدفهم انقاذ المخطوطات من الأوضاع التي هي فيها في البلاد العربية، إنما كانت أغراضهم معروفة هي الاستشراق أو الاستعراض للتوظيف السياسي والاستعماري في جزء كبير منه، نحن لا ننفي أن بعضهم وهم قلة كانت أعراضهم علمية أو اقتصادية؛ لكن الأغراض الأساسية كانت سياسية هدفها الدخول في العقل العربي والاسلامي والافادة من هذا النتاج العقلي التاريخي والحضاري، لذلك نحن لا يمكن أن نتبنى مسألة من وجهة نظر أن نقلها أو تهجيرها كان خيرًا، ولعلكم أنكم تلاحظون أننا استخدمنا المهجرة (صيغة تفعيل) وليس المهاجرة، لأنها أخرجت إخراجًا ولم تخرج برضاها ورضا أصحابها غالبًا، نعم هناك بعض أصحابها الذين وافقوا على إخراجها رغبة في المال؛ لكن الجزء الأعظم منها أخرج إخراجًا عن طريق السياسة والمخابرات؛ لذلك كانت هناك وفود تأتي ولجان تجمع إلى العالِم والضابط والقنصل والسياسي والتاجر، تنقل هذه المخطوطات ولذلك جزء كبير من تراثنا كما هو معلوم موجود في الخارج، الخير الذي تحقق في الحفاظ على بعضها هذا خير غير مقصود، ونحن نعلم أن الأعمال بنياتها ومقاصدها وليس بما حدث لها.

ولذلك عودة المخطوطات المهجرة إلينا ربما كان أمرًا صعبًا، المهم الآن أن نقلب المسألة ونقول: المخطوطات الموجودة الآن يجب أن نحافظ عليها ولا نجعلها تهجر؛ لأن جزء كبير من الدراسات المتعلقة بعلم المخطوطات (دراسات الكوديكولوجيا) لا يمكن أن تقوم بعيدًا عن الوعاء التاريخي نفسه: الورق، والحبر، والجلد -كما هو معلوم- هذا بالإضافة إلى أنها ملكية حضارية، يعني كما أن الإنسان له ملكية خاصة في بيته وأساسه... إلى آخره، هناك ملكية حضارية ملكية للأمة التي أنتجت هذا الفكر وهذا التراث.

┈••✾•✿•✾••┈

20- في نهاية هذا الحوار نود تقديم نصيحة لأبنائكم العاملين في مجال التراث.

رد د. فيصل: أنا الآن أؤكد في الحقيقة في ختام هذا اللقاء الذي سررت به، أؤكد ضرورة لفت أنظار الأجيال الجديدة إلى التراث، وإلى المخطوطات، وإلى أن هذا التراث ليس شيئًا صعبًا ولا منفِّرًا، فضلًا عن أن يكون مبغوضًا أو مكروهًا، هذا التراث جزء من الذاكرة، أو هو الذاكرة إذا ما صح الإطلاق، وعلينا أن نلتفت إليه، وأن نسرع أو نحاول أن ننتهي من العمليات التأسيسية الأولى المتصلة بالفهرسة، وبالتحقيق؛ لأن هناك عملًا كثيرًا ينتظر أبناء هذه الأمة من جهة دراسة هذا التراث دراسة عميقة، بمعنى أننا نستطيع أن ندخله في نسيج الحياة الثقافية التي نعيشها، ونوظفه ونبني عليه، يعني لا يكفي أن نظل دائرين أو مشغولين بالنص فهرسة وتحقيقًا ودرسًا قريبًا، لا بد من الدرس العميق، أو الدرس البعيد الذي يجعل هذا التراث أساسًا لبناء نظريات جديدة في كل الحقول المعرفية، في اللغة، وفي الأدب، وفي التاريخ، وفي الفقه حتى نشكل نحن -أي: الأجيال الجديدة- تراثًا جديدًا عندما يأتي أبناؤنا فيما بعد ويجدون أننا تركنا لهم تراثًا كما ترك لنا السابقون تراثًا.

هذا هو التراكم المعرفي الذي علينا أن نقوم به حتى لا يظل التراث تراث أباءنا وأجدادنا، إنما لنا أيضًا نحن تراث، التراث لا بد أن يستمر، تستمر صناعة التراث؛ لأن التراث صناعة ومشكلة كبيرة عندما تحدث فجوة أو ثقب إذا ما صح التعبير في العقل.

تم الحوار

والحمد لله رب العالمين.

([1]) والأسئلة التي ساهم بها المتابعون صدرناها بكلمة «وسئل»؛ تمييزًا لها عن الأسئلة الإعداد.

([2]) تم الحوار بمجموعة «مخطوطات السنة» على الواتساب خلال المدة من يوم السبت وحتى يوم الثلاثاء (الموافق 12 من شعبان 1439 – 15 من شعبان 1439هـ).

([3]) «مصادر التراث السياسى الإسلامى» دراسة فى إشكالية التعميم قبل الاستقراءوالتأصيل – المؤلف: نصر محمد عارف – المعهد العالمي للفكر الإسلامي- 1994م.

([4]) بدأت الثلاثاء 17/ 9/ 2019م، وانتهت الأحد 22/9/2019م.

تحميل المقال

لقاء مع الأستاذ الدكتور فيصل الحفيان مدير معهد المخطوطات العربية بالقاهرة